كانت طفولة النبيـ صلى الله عليه وسلمـ حافلة بالأحداث، فقد نشأ - صلى الله عليه وسلمـ يتيماً، حيث تُوفي والده قبل مولده، فتولى أمره جدّه عبد المطلب، الذي اعتنى به أفضل عناية، وشمله بعطفه واهتمامه، واختار له أكفأ المرضعات، وأمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلمـ سنواته الأولى في صحراء بني سعد، فنشأ قوي البنية، سليم الجسم، فصيح اللسان.
ولما بلغ عمره ست سنين توفيت أمه في قريةٍ يُقال لها " الأبواء " بين مكة والمدينة، فعوّضه جدّه عبد المطلب حنان والديه، وقرّبه إليه وقدّمه على سائر أبنائه.
واستمرّت هذه الرعاية طيلة سنتين حتى تُوفِّي عبد المطلب وللنبيـ صلى الله عليه وسلمـ ثمان سنين، فكفله عمّه أبو طالب وقام بحقه خير قيام، وقدمه على أولاده، واختصّه بمزيد عناية وتقدير.
ولما بلغ رسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ اثنتي عشرة سنة خرج به أبو طالب تاجراً إلى الشام حتى وصل إلى بصرى، وكان في هذه البلد راهب عُرِف ببحيرا، له مع النبيـ صلى الله عليه وسلمـ قصة روتها كتب السيرة والسنة.
ولنستمع إلى أبي موسى الأشعريـ رضي الله عنهـ يحدثنا عنها في القصة التي حسنها الترمذي، وصححها الحاكم وابن حجر والألباني وغيرهم، فيقول:
" خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب، هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت.
فبينما هم يحلون رحالهم جعل الراهب يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟
فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرّ ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبيّ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فئ الشجرة، فلما جلس مال فئ الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فئ الشجرة مال عليه.
قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ ، قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ ، قالوا: إنما اخترنا خيره لك لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ ، قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ ، قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب. . ".
قال ابن تيمية: " والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم. . ".
وقال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة): ". . تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء، بنبوة محمدـ صلى الله عليه وسلمـ مما هو حجة على أممهم، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله - تعالى - على غيبه، ليكون عونا للرسل، وحثا على القبول.
فمنهم من عينه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنه من ميزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله - تعالى - هذه الصفات جميعها فيه، حتى صار جلياً بعد الاحتمال، ويقينا بعد الارتياب ".
وقد أثار بعض المستشرقين شبهة تأثر النبيـ صلى الله عليه وسلمـ بالأحبار والرهبان من اليهود والنصارى مثل بحيرا الراهب.
والرد على هذه الشبهة الواهية أن النبيـ صلى الله عليه وسلمـ أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يثبت أنه رأى التوراة والإنجيل أو قرأ فيهما أو نقل منهما. كما أنه لم يثبت أن رسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ التقى بأحد من الأحبار والرهبان غير بحيرا.
وذلك أثناء سفره مع عمه أبي طالب وأشياخ قريش، ولا مجال للتعلم والتلقي، فضلاً عن صغر سن النبيـ صلى الله عليه وسلمـ حينئذٍ حيث كان في الثانية عشر من عمره، ولم ينقل هذا الافتراء أحد من أهل مكة.
وفي قصة لقاء بحيرا برسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ قبل بعثته وهو ما زال في الثانية عشرة من عمره دليل على أن علماء ورهبان اليهود والنصارى كانوا يعرفونه قبل مبعثه بما يجدونه من أوصافه وزمان خروجه في التوراة والإنجيلـ قبل تحريفهماـ ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في آيات كثيرة، منها قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 146).
وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} (الأعراف: من الآية157)، وقوله: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: من الآية6) .
وقد أسلم بعض اليهود وفي مقدمتهم عبد الله بن سلام، وبعض النصارى وعلى رأسهم النجاشي ملك الحبشة لما علموه من أوصاف النبيـ صلى الله عليه وسلمـ في الكتب السابقة.
وامتنع البعض عن الدخول في الإسلام لأسباب مادية أو سياسية أو نفسية، كما هو الحال في حيي بن أخطب وهرقل ومقوقس مصرـ رغم علمهم بصدق النبيـ صلى الله عليه وسلمـ ونبوتهـ .
ففي حديث هرقل مع أبي سفيان في وصفه للنبيـ صلى الله عليه وسلمـ قول هرقل في آخره: (. . فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم) (البخاري) ، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89) .
كما أكدت هذه القصة على العداء والحقد القديم من أهل الكتاب على النبيـ صلى الله عليه وسلمـ ، وظهر ذلك في تحذير بحيرا لِعمِّ النبيـ صلى الله عليه وسلمـ ألا يذهب به إلى الروم، فإن الروم إذا عرفوه سيقتلونه، إذ كانوا على علم بأن مجيء هذا الرسول سيقضي على نفوذهم بدينه الجديد الذي سيعلو فوق جميع الأديان، وصدق الله تعالى حيث يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: من الآية120) .
لقد تعددت الأوصاف في الكتب السماوية السابقة بخاتم النبيين محمدـ صلى الله عليه وسلمـ وعلمها أحبارهم ورهبانهم، ولولا ما حدث في هذه الكتب من تحريف وتزييف، وما أصاب علماء أهل الكتاب من كِبْر وحسد، لكانت النصوص الدالة على رسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ واضحة وضوح الشمس في وسط النهار.
المصدر: موقع إسلام ويب